(النظام البدهي للشكل الحيوي) الحلقة الثانية: (1)الشكل لا الجوهر

المفكر عبد الرحمن كاظم زيارة : بغداد

من الامور المتداولة معرفيا ذلك التقابل التقليدي بين الشكل والمضمون ،وهما صعيدا النظريات النقدية في الادب والفن ، وقد نالا نصيبهما في اطار المفاضلة بينهما ودراسة اوجهما المعرفية والابداعية . إلا ان فلسفة الشكل الحيوي تنطلق من مقابلة الشكل للجوهر لا على سبيل الثنائية التي كرسها تقابل المضمون والشكل ، بل على سبيل الاطاحة بمقولة الجوهر تمهيدا لتأسيس منطق حيوي وتوحيدي لكل القطاعات الابداعية والعلمية ، على أساس مفهوم جديد للشكل، يتجاوز دلالته القشرية والعرضية والوسائلية .

ان الشكل الذي يقول به النقري ليس بمعنى او بمضمون مفهومه كما ورد لدى كانط وبروب وغيرهم من الشكلانيين ، بل هو الشكل الذي يقترن بطريقة تشكل الاشياء ليستغرق كل ماله صلة بالشئ : شكله الخارجي و صورته ومضمونه ومحموله ومكوناته الداخلية والخارجية وصلاته بالاشياء الاخرى .

ولكي نقطع الطريق على ما قد يحتمل ان يتصوره القارئ من أن مفهوما جديدا للشكل يضاف الى نظرية النقد الادبي في داخل سياق تقابل الشكل و المضمون ، نقول ان المفهوم الجديد يجد تعبيره الكامل في اصطلاح : الشكل الحيوي . ومن هذا المصطلح ، وانطلاقا منه ، تتأسس فلسفة الشكل الحيوي التي تستغرق مفاهيمها وأسسها كل موجود ومعدود ، وكل معقول ومحسوس ، وكل مادي وروحي ، وكل مادي وطاقي ، وكل نور وظلام .. الادب والفن والعلم والمنطق والوعي .. وكل شكل ومضمون …كل شئ.

لقد هيمن مبدأ الثنائية على الفلسفة والعلوم ونقد الاعمال الابداعية ردحا طويلا من الزمن ، حتى عُدَّ مبدأ الخصب والتخيل العلمي لقرنين سابقين في الاقل ، والاساس الاول في تأسيس المعرفة الانسانية .وهو على أي حال عُدَّ تكريس لأحد تداعيات مقولتي الجوهر والعرض كما صيغت في الفلسفة التقليدية والحديثة منذ افلاطون وسقراط . ولعل من السابق لأوانه القول ان الثورات العلمية في القرن الماضي والحالي ما كان مقدرا لها الظهور ، إلا بالتحرر من التصنيف

الثنائي المتقابل : الجوهر والعرض ، على مستوى الوعي. إلا ان القول ـ وهذا ليس اعتذارا بل إقرارا ـ بأن الثنائية قد أسست نسقا معرفيا غطى احتياجات مرحلة تاريخية سابقة بمعطياتها ـ لكنه لم يتوصل على نحو كامل ومتكامل الى منطق توحيدي يتجاوز المسارات الضيقة والمعطلة في الثنائيات العقيمة على مستوى العلم، ومسارات قاتلة ومعطلة ومشوهة لبناءات المجتمع الانساني .

فما علاقة الثنائية بمقولة الجوهر . وما علاقة كل ذلك بفلسفة الشكل الحيوي ؟

لقد أسس التصنيف المزدوج ، ومنه : الجوهر والعرض لثنائيات ،غطت معظم العلوم والمعارف الانسانية ،ولقد واجه هذا التصنيف اعتراضات خجولة تارة واعتراضات صاخبة تارة أخرى. ففي سبيل المثال ان رولان بارث يقرر ( ان اهمية وبساطة التعارض (مُعْلَم / مُغـْفل ) وهو تعارض تناوبي اساسا ، قد افضيا الى التساؤل عما اذا لم يكن من الضروري تقليص كل التعاراضات المعروفة الى النموذج المزدوج . أو بعبارة أخرى ؛ عما إذا لم يكن الازدواج واقعة كونية . والتساؤل ،من ناحية أخرى عما اذا لم يكن ـ وهو الكوني ـ ذا اساس في الطبيعة . بصدد السؤال الاول ؛ من المؤكد ان الازدواج واقعة عامة جدا ، من المبادئ المعترف بها منذ قرون .. إلا اننا اذا تركنا صعيد التقنية وعدنا الى صعيد الانظمة غير المصطنعة ، فأننا سنجد ان كونية الازدواج موضوع شك كبير ) (1) . وبالمثل فأن دي سوسور لم يتصور المجال التجميعي على انه مزدوج ابدا فهويقول(كأن اللفظ مركز لكوكبة ، والنقطة التي تلتقي فيها الفاظ مترابطة غير محددة المقدار ) ( 2). إلا انه قد نظر الى الصوتاتية التي اثارت الانتباه للازدواج في اللغة .كما ناقش مار تيني كونية الازدواج ودقق فيها ووجد ان التعارضات المزدوجة هي الاغلبية ولكنها ليست هي الكل (3).

وفي مجال آخر يشن مؤلفو” ليس في جيناتنا ” (4)،حملة على اصحاب مذهب الثنائية في علوم البايلوجيا والاجتماع والسياسة ، حيث التكريس المفتعل للعنصرية وازداوجية المعاييرواللتان صيغتا من ركام من التزييف العلمي ، او انحراف في النظرة للمعطيات العلمية في العلوم الطبيعية بخاصة ، الامر الذي كرس ما سمي بالحتمية البايلوجية ، تلك الحتمية التي تؤبد وراثة الصفات العقلية والثروة والمكانة الاجتماعية عبر الجينات الوراثية للاقوام او المجموعات الاثنية .

يُعرَّف ( الجوهر ؛ بأنه القائم بنفسه ، الحامل للاعراض ، لاتتغير ذاته ، موصوف واصف. والفصل بين الجوهر والعرض : ان الجوهر لايقبل الزيادة ولاالنقصان ، والعرض يقبلهما) (5).

وعند مستوى معين من الكشوفات العلمية ، وتحديدا قبل اكتشاف طبقات الطاقة في التركيب الذري للذرات ، ظل مفهوم الجوهر ذا وظيفة تصنيفية تهمش ما عداها في كل الابنية والتركيبات على اختلاف طبيعتها وكيفياتها وتجلياتها . بمعنى ان التزام مفهوم الجوهر مقابل العرض مثل مرحلة معرفية تجاوزها الزمن بفعل الاكتشافات التي تمت على صعيد كيمياء وفيزياء الذرة والتي اثبتت ان ما يعتقد بأنه جوهر لايحول ولايزول ولا يتغير ، هو اعتقاد غير صائب . فالكتلة قابلة للتحول الى طاقة ، وهذا تغير لو نظرت له ، تغير ” جوهري ” ، أي ينقل المادة من جوهر الى آخر فليس ثمة جوهر بدلالة هذا التحول . وهذه احدى معطيات العلاقة التالية التي اقرها انشتاين :

الكتلة = الطاقة مربع سرعة الضوء

فلقد وُجد ان كتلة ذرة نظير مستقر تزن دائما اقل من مجموع اوزان النويات والالكترونات التي تتكون منها . ان الكتلة المفقودة تحولت الى طاقة تدعى طاقة الارتباط النووية وهي الطاقة الضرورية للتغلب على التنافر بين البروتونات الموجبة وللمحافظة على النويات سوية داخل النواة ضمن حجمها الصغير جدا .

كما ان امكانية تحلل التركيب الجزيئي الى ذرات حرة ” أو عناصر نبيلة ” قد وسع من البرهان التجريبي على تقادم مقولة الجوهر وخطؤها . ان الاستحالات التي يمكن ان تمر على الماء بفعل التغير في درجات الحرارة لتحيله الى بخار او سائل اوجليد ، هي استحالات لاتطيح بجوهر الماء بل تغير عرضه . الا اننا ونحن ننشد العلم والعلم هو علم بالكليات ، فأن الاستحالات هذه ليست نهاية المطاف إلا اذا عَدَدْنا ان هذه الاستحالات هي وحيدة ولايمكن تجاوزها الى ما هو اعمق اوعلى مسارات أخرى .ولكن التحليل بفعل الاستقطاب القطبي بأمرار التيار الكهربائي في الماء ينتج عنه ذرتا اوكسجين وذرة هيدروجين ، الامر الذي صيّر الماء شيئين آخرين ، وبهذا تنتفي مقولة الجوهر في الماء .فالماء ذات بحسب تعريف الجوهر ، أضحى قابل للتغير في ذاته وفق شروط معينة وممكنة . وبهذا علينا اختيار ” تعبير ” آخر يستوعب احتمالات التغيير بأنواع وكيفيات ومسارات مختلفة ، بعد ان رأينا ان الجوهر ليس بالتعبير الصائب اطلاقا ، بل تعبير معطل حتى للطبيعة ذاتها ، ليس في دواخلها ومحيطها بل في وعينا نحن وما قد ننظمه من تصورات تبسيطية عقيمة .

انشتاين يقول ( اننا بمعونة من النظريات الفيزيائية ، نحاول ان نشق طريقنا من خلال متاهات الحقائق المشهودة لكي ندير عالم انطباعاتنا الحسية ونفهمه .فمن غير الايمان بامكانية الامساك بالحقيقة بمعانينا النظرية ، ومن غير الثقة بالانسجام الداخلي لعالمنا ، لايمكن ان يكون هنالك علم .ان هذا الاعتقاد سيكون على الدوام ، وسيبقى ،الدافع الاساسي لكل الابداع العلمي )(6) .

اذن ، مقولةالجوهر ليست هي التي تضمن لنا حياتنا وحياة الكائنات الحية الاخرى ،باستمرارتدفق الماء بوصفه جوهرا في سبيل المثال، بل الذي يضمن لنا ذلك “وجوده في لحظة تاريخية ” مع عدم الغاء احتمال تحوله الى طاقة او الى ذرات الاوكسجين والهيدروجين . فالماء هو كل هذه الاشياء وغيرها ، الامر الذي يضيق بها مفهوم الجوهر ويعطلها .فالغاء مقولة الجوهر لايؤدي الى الغاء كلمة ماء من المعجم ولا من الاستعمال ولا من مصادره الطبيعية ولا من المركبات الكيمائية ، سواء كان سائلا اوجمدا او بخارا . فهو موجود في حالاته المتغيرة والمختلفة كلها ، واجزائه وذراته موجودة بغير صيغة الماء ايضا ، وان اجزائه وذراته وبروتوناته والكتروناته ونيتروناته ليست وقفا عليه ، ولا وجودها موقوف عليه . وبما أنه ماء فهو طريقة تشكل وصيرورة ، وليس بجوهر(7).

إن مقولة الجوهر ، تقرر ثبات المعطيات العلمية ، عندما تتضمن اعتقادا بثبات الذات ، أي ذات الشئ . بمعنى انها تعد المعطيات العلمية حقائق معرفية نهائية، غير قابلة للتغيروالتطور ويمكن ان يبنى عليها نظرة توحيدية وكونية في آن ، على وفق سياقها .إلا ان الثورات العلمية منذ بداية القرن العشرين قد اطاحت بهذا المنحى الذي انتج زيفا واقام تعطيلا في مضمار الفلسفة ونظريات علم الاجتماع والتعليم والاقتصاد والسياسة . فلم تعد الصورة التقليدية للنواة الذرية المحاطة بالكترونات مدارية قائمة اليوم ، وقد استعيض عنها بوصف لايكون فيه موقع الالكترونات معروفا برغم وجود امكانية للتنبؤ بمواقع محتملة رياضياتيا . فلقد تم اكتشاف جزئيات فلزية نووية داخل النواة فضلا عن البروتون والنيترون اللذين كانا معروفين ،وقد سميت هذه الجزيئات بالميزون المزدوج او البايميزون وهو موجود بثلاثة اشكال مختلفة تتألف بالاساس من ثلاث كتل متماثلة ولكن بشحنة كهربائية مختلفة .

وفي الخمسينات تم اكتشاف لكل جزئ يوجد بازاءه جزئ مضاد ، متساويان في الكتلة ويختلفان في كل الصفات الاخرى ،اضافة الى اكتشاف ما سمي بجزئ لمبدا ، وهو عبارة عن مجموعة من الجزيئات المتشابهة والتي سميت ايضا بالجزيئات ” الغريبة ” لأنها لم تكن متوقعة على الاطلاق وان غرابتها انها مشابهة الى حد ما للشحنة الكهربائية وتنتج بسرعة فائقة على هيئة ازواج ولكنها تضمحل ببطء شديد (8).

ومع ذلك ان المعطيات العلميةالسابقة على هذه الاكتشافات مثلت مرحلة سابقة في تاريخ العلم وبالتالي فأن لها تطبيقاتها المثمرة في حينها . ولكن الجنس البشري تعرض للابادة والحروب والتمييز العنصري والعزل والتجويع ، بسبب اتجاهات تبسيطية اسقطت المعطى العلمي ” الجوهري في طبيعته ” في تلك المرحلة على الحياة الاجتماعية للبشر . والاتجاه التبسيطي مجموعة من المناهج والطرائق لتفسير عالم الاشياء المادية والمجتمعات البشرية معا وفي وقت واحد ، وبمعيار واحد . ولعل الديكارتية والماركسية والنازية الالمانية ومنهج المحافظين الجدد في الولايات الامبرياليةالمتحدة الامريكية والمملكة الامبريالية المتحدة ، نماذج انتجتها دينامية تبسيطية مفتعلة ، عمادها مقولة الجوهر الثابت الذي لايحول ولايزول ولا يتغير ، كأنها ـ كما هي عندهم ـ مسكوكات ابدية ونهائية في احكامها ، تنظم المجتمع وفق تقسيمات على أسس من الحتميات البايلوجية تارة والحتميات الثقافية تارة اخرى، تتمدد رؤيويا وايديولوجيا لتكرس ازدواجية المعايير . فدماغ الزنجي كما يدعون اصغر من دماغ الابيض وكذلك معامل ذكائه ، وهكذا تنتظم سلسلة الاختلافات المبررة لكل السياسات العنصرية المبنية على ثنائية مادية سمحت لنفسها بالتشيّئ على مستوى النظريات الاجتماعية والسياسية ، لتشمل مقولات الحرية التي لايستحقها الا صنف معين من البشر . والتي تبرر سياسات الاحتلال لكونها المعادل الحركي للتمييز والاقصاء العنصري . وما احتلال العراق من قبل الولايات الامبريالية الامريكية المتحدة تحت اسم ذي دلالة واضحة في زيفها وهي ” عملية تحرير العراق ” ، وقبل ذلك السياسة العنصرية الصهيونية التي انتجت الكيان الاسرائيلي الصهيوني على حساب الحق العربي الفلسطيني في فلسطين العربية المحتلة ، هي تطبيقات لمقولة الجوهر التي كرست ازدواجية المعايير .

لقد كان كافيا حتى الخمسينات وتحديدا قبل تفسير الشفرة الوراثية ، لتفسير الكون البايلوجي والبشري معا عن طريق فهم ثلاثية :

• التركيب : أو الجزيئات التي يحتويها الكائن .

• والبنية : أوطريقة تنظيم هذه الجزيئات في الفراغ .

• والدينامية : أو التفاعلات الكيمائية ما بين الجزيئات .

حتى اصبح تاليا من الضروري واللازم إضافة مفهوم رابع هو “المعلومات” التي تنتقل الى البروتين*. والأمر لايتوقف عند هذا الحد فيما تتحواها طرائق تشكل بايلوجية الانسان ، وما تتحواه طرائق تشكل المجتمع البشري او المجتمعات البشرية المحلية .بكلمات اخرى أن هذه الثلاثية ومن ثم الرباعية تظل قاصرة في الكشف الشامل عن “كل ” ما يتعلق بقطاعين هما البايلوجيا والمجتمع ،فكيف اذا كانت هذه الطرائق يراد منها ان تكوّن رؤية توحيدية للكون عبر حتميات بايلوجية او ثقافية او سواهما لتوظف في تبسيطات ، هي في الاغلب ذات نتائج كارثية على المستويين الابستملوجي والانساني. فنحن ننظر الى كل من التركيب والبنية والدينامية والنظام وسواها بوصفها طرائق منهجية محدودة بخصائص معينة دون سواها للاشياء عندما تكون قيد الدراسة .

وعلى هذا فأن نظرية المعرفة بها حاجة الى مراجعة جذرية وشاملة ، تتجاوز كل ما من شأنه تضييق الافاق العلمية بالتوقف عند محطة تطورية ما . وان هذه الحاجة تتمثل في هذا العصر ، بالمفهوم البدهي للشكل ، وهومفهوم كلي وشامل . لايعني بقشور الاشياء وصورها وظواهرها حسب بل هو مفهوم يستغرق كل شئ وفي أي شئ . بمعنى ان الاشياء مهما أختلفت هي تشكيلات تتشكل وفق طرائق معينة من تحويات متعددة ومتغيرة في آن واحد . ومفهوم الشكل لايطرح بوصفه اضافة ، او ملحقا بنسق معرفي ما ، بل هو مفهوم يؤسس لفلسفة ونظرية في المعرفة غير مسبوقة ، وتفصح عن ذاتها بأصالة متفردة ، كما سنرى .

( 2 ) المفهوم البدهي للشكل الحيوي

قبل الخوض في عرض ما نعده بداهة مفهوم الشكل ، ومن ثم بداهة الشكل الحيوي، لنذكر وتفاديا للتكرار إننا نقصد بمفردة “شئ ” كل ما يشار اليه بلفظ يدل عليه . هذا التوضيح يجعلنا نتفادي تعداد الاشياء على اختلافها ، إلا انه لايجب أن يُوهِم بأننا نتخذ من اللسانيات مدخلا لعرض مفهوم الشكل الحيوي ، فهذا خطأ وقع فيه البنيويون عندما ألْسنوا العلوم التي تناولوها في ابحاثهم ومقالاتهم . وبنفس الوقت ان هذا التنبيه لايعني اقصاء علم اللغة العام أو اللسانيات من مقولة الشكل ، فهو، وهي شكل أيضا .

للاشياء على اختلافها ، طـُرُق تتشكل بها ، فلكل شئ طريقته في التَشَكـُّل ، وفق نظامه الخاص . وكل طريقة تَشَكـُّل تُسْفرُ عن شكل ما ، فكل الاشياء أَشكال .و كل شئ هو شَكْل ، بدلالة طريقة تشكله. فالشكل في الادب هو طريقة تشكل ، وكذلك الشكل ذاته لأنه طريقة تشكل أيضا . والمضمون هو شكل بدلالة طريقة تشكله . *أقول تشكله ، وليس تكوينه او تركيبه أو بناءه أو نظامه حسب ، لأن هذه المفاهيم وغيرها هي مفاهيم جزئية بينما التشكل مفردة غنية ، أغنى من التكوين والتركيب والبناء والنظام ؛ ذلك ان التكوين لايشمل الفساد والانحلال ، وهما تجليان من تجليات صيرورة الاشياء . وان التركيب يقبل الوحدات من اصعدة مختلفة ، وان انضمام الوحدات المنسجة هو الكيفية المبسطة للتركيب ، الا ان التركيب لايشمل الانحلال تجريبيا ، بل يقبل التحليل صوريا . فمقولة الشكل تستوعب ، على انفراد ،أو معا ، كلا من الكون والفساد ، النماء والاضمحلال ، البقاء والزوال ، وغير ذلك ، وليس كذلك التركيب او التكوين او التنظيم . ونظرا لأقتران الاشياء بكينونة وصيرورة ـ دون ايلاء اهمية للترتيب ـ فأن طرق تشكلها ، هي أيضا تقترن بلحظة تاريخية ، فالشكل هو لحظة تاريخية قابلة للتغير ضمن ابعاد معينة ، في مكان ما وزمان ما .

ايضا ” لكل تعبير ” له طريقة تـَشَكـُّل ، مهما اختلفت وسائله : اللغة ، أو الكلام ، أو الكتابة ، أو لغات البرمجة على الحاسب ، أو قوانين المنطق ، أو اللغة الخاصة بكل علم : رموز ومعادلات واصطلاحات ، أو أشارات البكم والصم ، أو اشارات المرور ، او الفرمونات التي تعمل عملا مشابها للهرمونات ، تنظم الرسائل والمثيرات الجنسية بين الحيوانات والحشرات عبر أعداد هائلة من الروائح العطرية ، وغيرها من لغات التواصل والتعبير، انما هي تسفر عن أشكالها الخاصة ،والمميزة ، تبعا لطرق تشكلها المختلفة .

ومعروف ان الانسان يتميز عن سائر جنس الحيوان بشكله ، والناس تتعرف على بعضها بالشكل ،كذلك نحن نتعرف على الاشياء ونعرفها لانها أَشكال ، فالقلم شكل قلمي ، والتفاحة شكل تفاحي ، والادب شكل ادبي والمعنى شكل معنوي واللغة شكل لغوي … ومرّد الاختلاف في هذه الاشكال الى طريقة تشكلها . ولا نعني هنا بـ ” شكل ” الذي هو مثلا الانسان صورة الانسان ، فصورته شكله الخارجي وفي معنى آخر طبيعته ، إنما نعني بـ” شكل ” ، شكل انساني لأنه طريقة تشكل تستغرق الانسان كله ، بكل ابعاده ، وتحوياته ، وتشريحه البايلوجي ، وعقله ، ونفسه ، ومشاعره ، وصحته ، وغرائزه وتاريخه في الخلق والسيرة وحركته وصيرورته وميلاده وموته وضعفه وقوته ..وكل شئ فيه وله وعنه وعليه. وان الصورة والخاصة والصفة والوظيفة والفاعلية والطبيعة وغيرها انما هي ” محتواة ” في الشكل وكل منها شكل أيضا، بدلالة طريقة تشكلها . فمفهوم الشكل يستوعب كل هذه المتعلقات .وقد (كان الانسان اجزاءاً مبثوثة في هذا العالم ، فلما صمدت النفس لها، حركت الطبيعة على تأليفها ، وتوزيع الحالات المختلفة فيها ، واعطتها النفس بوساطة الطبيعة صورة خصّتها بها ، ودبرت اخلاطها ، وهيّأت مزاجها فظهر الانسان في الثاني بشكل غير الشكل الذي كان لاجزائه .. إذ كان بددا في حكم المعدوم ، فنظم نظما ، بعيدا عن العبث)(9).

وكل محسوس ، وكل معقول ، وكل مايقع في النفس ، هو شـَكل ، يتشكل بطرق معينة يمكن معرفتها، وله كيفيات مختلفة يمكن الوقوف عليها. فالفكر وكل العمليات العقلية ، كالتذكر والذهن والتصور والادراك والوهم والظن والحدس.. والتفكير المجرد ، هي اشكال ايضا ، و كل منها ـ وليس لكل منها ـ شكل . * كما ان ” كل محتوى ” و” كل مضمون ” في النص إنما يتشكل على وفق طريقة تشكل ما ، وكذلك جنسه : شعر ، رواية ، بحث علمي ، قصة قصيرة ، اقوال وحكم ، مقالة ، خبر صحفي .. كل منها شكل . وما يُعرف بـ ” شكل النص الادبي ” ايضا هو شكل لا بالمعنى الشكلاني الدارج ، بل بالمعنى الذي يفيض عن طريقة تشكله .. والنص له وحدته ، مثل أي شئ ، فهو شكل دون انقسام ، او تفكيك ، او تجزئة ، وكل ما من شأنه ان يبدد وحدته .. فقصيدة الشعر بنوعيها : المقفى والحر ، انما تعرف بهذا الاسم بدلالة طريقة تشكلها ، فهي شكل يتحوى أَشكال : شكله ، ومضمونه ودلالاته وأسلوبه اللغوي ، وغير ذلك . واللغة هي شكل لغوي ،بدلالة طرق تشكلها .وكذلك الصوت هو شكل ان اردنا الاعمام وهو مجموعة أشكال ان اردنا التخصيص ، فكل مايقع في سمعنا هو شكل صوتي وفق طريقة تشكله التي تتدخل فيها المثيرات اوالحاجات ونوع الصوت ودرجته وطبقاته وتداخلات امواجه ، إذ من الممكن معرفة طريقة تشكل القطعة الموسيقية ، كما يمكن ان تتوزع توزيعات مختلفة تبدو للموسيقار لانهائية ، اضافة الى امتلاكها المؤكد لقابلية التغيير بتدرجات متجاورة كتدرج قيم خط الاعداد الحقيقي ، المتقابل لتدرجات أخرى مصاحبة له . ومن ذلك ان الكلام بما هو كلام هو طرق تشكل الصوتيات ” الفونيمات ” بطرق تشكل مختلفة تنتج ادلتها المختلفة . ان مواء القطة ومواء المرأة في المخدع كل منهما شكل صوتي دال ، وقد اختلفا بسبب اختلاف طرق تشكلهما ، والاختلاف يبدأ من المثيرات والمسببات والحاجات والعلل فهي ليست سابقة على التشكل بل هي جذوره الاولية من حيث التشكل ، كما يمرالاختلاف في اثناء صيرورة التشكل ، بل وفي تمامه وتمامه في كينونته المستمرة وليس في سكونه ، فالسكون مجرد تقويم نسبي وليس هو بالمطلق ولاوجود له بذاته .

واذا أتفق ان المعدوم “شيئا ” ، وهو مفترض بالعقل ، هو ايضا شكل ! اما كيف ، فلأنه محض تصور ، والتصور تعبير ، ولايوجد تعبير دون طريقة يتشكل بها ، فالعدم شكل . ذلك ان (الشئ يطلق على المعدوم على تفاوت درجاته ، كما يطلق على الموجود على تباين طبقاته ، ويعين به ما في الحس تعيينا ، كما يشار الى ما في العقل اشارة ، ويستعمل فيما يفرض فرضا من غير حقيقة ، كما يستعمل فيما هو موجود وله حقيقة ، فيقع على كل ما عدم ووجد ، ويعدم ويوجد ، والناس اذا عدموا شيئا عدموا اسمه ، لان اسمه فرع عليه ، وعينه اصل له ، واذا ارتفع الاصل ارتفع الفرع ، هذا مالادفاع له ، ولاامتناع منه . وخواص الخواص معدومة الاسماء. فالعدم لايقتبس منه علم شئ بوجه ، ولايستفاد منه معرفة حال ، لافيما يتعلق بالحق ، ولا فيما يتعلق بالباطل) (10).

فأذن الشكل : البرهان البدهي ، التجريبي لكل شئ. فلايعرف الموجود او المعدوم ، المحسوس والمعقول ، المادي وغير المادي ، الروحي والنفسي ، العدل والظلم ، .. من دون ” مثوله ” على هيئة شكل وصيرورته في طريقة تشكله، فالشكل هو الدليل ” الشامل :الكوني والعدمي ” للاشياء على اختلافها وتنوعها ، يثبت وجودها ، ويقر تنوعها اللامتناهي . وبهذا المعنى ؛الشَكل هو المعادل الموضوعي لكل شئ .وهو (تعبيرشامل، لكل تعبير، أو كينونة أخرى، دون بواقٍ، وكما في المسائل الرياضية، التي يكون حاصل الطرح فيها “صفراً”: وهو تعبير لا يبقى شيئاً خارجه.. وهو تعبير واحد ،ووحيد يشمل كل شيء.)(11). بمعنى ان تعبير ” شكل ” هو التعبير الذي لايهمل أي شئ في كل شئ .

والشكل ليس خاصة من خواص الشئ ، ولاعَرَضا من أعراضه ، ولا صورته الخارجية حسب كما قلنا، انما هو الشئ ذاته ، به نعرفه ، وبدونه لاتتأسس لنا معارف ، إذ ان المعرفة تتأسس على : المثولية و الفروقات والتحويات والصيرورة والابعاد، بدءاً. وبهذا يكون الشكل الاساس المعرفي الاول والاخير . وهذا لايتضمن القول بوقف العمليات العقلية عند مستوى المحسوسات بحسب نظرية جان بياجيه في التعلم ،ولا يعنيه أيضا . بل ان مستويات المعرفة طبقا لمقولة الشكل الحيوي ليست خطية او جزئية ، إنما هي تظل متعددة الابعاد منذ ادنى مستوى معرفي وتظل هكذا في نموها التحصيلي .

وقولنا ان الشئ هو شكل ، لايعني تساويهما ، لأنهما غير منفصلين او منعزلين عن بعض ، وليس بالضرورة ان يكونا قابلين للمقايسة الكمية ، فثمة أشياء كذلك وأشياء ليست كذلك . كما لايعني انهما : متكافئان او متوازيان او متطابقان او متحـّابان ـ متحدان ـ او مشتركان ، فكل هذه المفاهيم ، انما تفترض وجود شيئين اثنين لا واحد ، وهذا خلاف بداهة الشكل . فالشئ وجود ، والشكل ” تمثـّل معرفي ” لهذا الوجود ، والامر كذلك في المعدوم من حيث ان المعدوم يتشكل على صعيد تصور، وشيئيته ولنا ان نقول بثقة : ان المُدْرَك هو ما كان مُتمثـّلا بهيئة شكل عند المُدرِك .اما وعيه وسبر أغواره فيتحصلا بالالمام بطريقة تشكله وتحوياته وابعاده، وعليه ليس ثمة اشياء غير مُدرَكة ..ومفهوم الشكل بهذا المعنى تجاوز لمبدأ العلة ، لقصورهذا المبدأ عن إدراك الاشياء غير المعلولة ، ويحرر الادراك من شرط العلة.

يتأسس الاختلاف بين الاشياء طبقا لاختلاف طرق تشكلها . ومقولةالشكل وبداهته لاتعني ان الاشياء متطابقة وغير محدودة ، فالاختلاف خاصة وجود شئ ما ، وبدون هذا الاختلاف تستحيل الاشياء الى شئ واحد وهذا مخالف لحقيقة الوجود المتنوع ، الذي يستمد وحدته من تنوعه كما هومعروف . ذلك ان ، وفي سبيل المثال 😦 قلب التفاحة لا يختلف عن قشرتها إلا في طريقة التشكل!!. وكلمة القلم شكل لغوي، والقلم نفسه شكل قلمي.. والوعي هو شكل أيضاً.. فالشكل يضم القانون ويضم الاستثناء عن القانون.. والشكل هو العام والشكل هو الخاص.. ولكن الخاص ليس عاماً، والعام ليس خاصاً.. مع أنهما، معاً، طريقة تشكل!!)( 12 ) .

حتى الآن اقتصر عرضنا لبداهة الشكل .. والآن نكمله بعرض مماثل لمفهوم “الشكل الحيوي” ، وما تعنيه مفردة ” تحويات ” لدى النقري في هذا المفهوم وقد شرحها شرحا وافيا نثبته هنا بنصه ،إذ لايمكن التعويض عنه بشرح آخر ، فيقول : (تعد كلمة “التحوي” من الكلمات القليلة الاستعمال، فإنها بالغة الدلالة وشديدة الصلة بمفردات شائعة كالحياة والاحتواء. فالتحوي مستمدة من الجذر (حوا) الذي يدل عليه أصغر قاموس مدرسي (مختار الصحاح) على النحو التالي: (الحوايا) الأمعاء جمع حوية، والحواء جماعة بيوت من الناس. والجمع. و (حواه) يحويه (حيا) واحتواه (مثله) واحتوى الشيء، استولى عليه وتحوت الحية تجمعت واستدارات. وفي الريف المصري تستخدم كلمة “حوايا ” لتدل على (الكعكة) أو اللفافة القماشية التي تضعها المرأة على رأسها عندما تحمل عليه شيئاً كقرب الماء مثلاً. وتعبير (وحوي) يستعمله الأطفال في رمضان مع تدوير الفوانيس في أيديهم.. كناية عن الخير وطلبه. وهذه المعاني يمكن أن نجدها في كل اللغات السامية كالعبرية، السريانية والأثيوبية.*والتحوي استدارة كل شيء. ويمكن إطلاق تسمية (حوية) على أي كائن أو فرد أو فئة. والتحوى هو المنظومة المنطقية التي تلتف- بها- الحوية حول نفسها، وحول ما فيها، وما في محيطها.

وصيغة الأمعاء بوصفها حوايا تحتوي على ما فيها من غذاء، تحول الغذاء إلى ما يجعله قابلاً للتحول إلى حواء { فجعله غثاء أحوى} (الأعلى :5). وتوضح انعدام وجود فرق جوهري بين الأمعاء (المحوى) والغذاء (المحتوى) فعملية تمثل الغذاء التي تتم من خلال عملية الاحتواء في المعدة والأمعاء، تجعل المحوى والمحتوى شيئاً واحداً يعطي الحياة ويكفل استمرار التحوى والدوران لتغذي نفسها بنفسها في الوقت نفسه الذي تتحوى فيه لتغذي الجسم عامة وفقاً لما يحتويه الغذاء. وبحسب قدرتها وقدرة الجسم عامة على الاحتواء والتمثل.ولذلك فإن التحوى هو التعبير المناسب للدلالة على تغذية المنظومة المنطقية المعيشة بوصفها حوية تغذي نفسها بنفسها وتغذي غيرها.*في القاموس المدرسي لوزارة التربية السورية شرح مختصر لكلمة حي (فالحي) من أسماء الله الحسنى والنسبة حيوي.

والحيوية لدينا ـ والكلام ما زال للنقري ـ هي التحوى الفعّال والاحتواء الضروري والحواء المتجدد.والحيوية بوصفها مفهوماً ليست مجرد معنى للفاعلية والتجدد والتي تختلط بالمعاني البيولوجية. بل هي صيغة أشمل للدلالة على التكون، التشكل عامة، سواء أكان بيولوجياً أم آلة صناعية،أم منظومة تجارية أو بيئية أو فنية أو فكرية أو دينية أو عائلية.. الخ.وهذه الدلالات الحيوية تأتي – هنا- من خلال طريقة الاحتواءات والالتواءات التي تصنع من ظاهرة ما دارة حية يمكن وصفها بـ “حواء” وبـ “حياة” وبذلك فالحيوية هي تشكل حوائي- إحيائي ، وتتضح هذه المعاني من دمج اشتقاقات (حيا، وحوا) المتقاربين لفظاً والمتحدين معنى، ولا بأس من التوقف لحظة عند الترابط والتقارن اللغوي بين (حو وحي) حيث نرى معاني متطابقة. تحت باب حواء نجد الحواء بمعنى الحي، فالحواء مجموعة من الأحوية يداني بعضها من بعض فنقول هن أصل حواء واحد ، والعرب تقول لمجتمع بيوت الحي (محتوى) ومحوى وحواء ، والحواء بيوت مجتمعة من الناس على ماء.وتحت باب (حي) نجد المعاني ذاتها ومترادفاتها حيث يمكن القول لا يعرف الحي من اللي، أي الحق من الباطل ويمكن قولها (لا يعرف الحو من اللو). والحي.. هو واحد من أحياء العرب، ويلاحظ ابن منظور أن الكلمتين تسببان التباساً في التعريف بسبب تقاربهما ويقول: إن (أبا علي) ذهب إلى أن (حيه) و(حواء) كـ (سبط وسبطر ولؤلؤ ولآل) وفي قول (أبي عثمان) أن هذه الألفاظ اقتربت أصولها واتفقت معانيها وكل واحد لفظه غير لفظ صاحبه كذلك (حية) مما عينه ولامه ياءان (وحواء) مما عينه (واو) ولامه (ياء) كما أن لؤلؤاً رباعي و (لآل) ثلاثي لفظاهما ومعناهما متفقان ونظير ذلك قولهم جبت القميص وإنما جعلوا (حواء مما عينه) (واو) ولامه (ياء) وإن كانت يمكن أن يكون لفظه مما عينه ولامه (واوان) من قبيل أن هذه الأكثر في كلامهم.ويؤكد هذا السياق (تاج العروس) بشكل واف.والحيوية لدينا تعبر عن صيغ التحوى الكوني والاجتماعي والفردي والمعرفي والسياسي.. والفئوي والعقائدي والاقتصادي والبيئي.. الخ.) (13).

فالتحويات هي موضوع من موضوعات طرائق التشكل للاشكال / الاشياء ، وهي أوسع مجالا من الوحدات او العناصر او الاجزاء او المركبات…مايجعل مفهوم الشكل بدوره الاوسع مجالا من كل تعبير ليشمل كل شئ . وان الصفة الحيوية التي يحملها تعبير ” الشكل الحيوي ” مستمدة من التحويات ، فهو حيوي بقدر ما يتحوى من تحويات ، ولكن ليس ثمة شكل حيوي وآخر خامل فكل الاشكال / الاشياء حيوية بدلالة ما تتحواه من تحويات. أضافة الى المعنى الشامل والكلي لتلك الصفة التي تجمع كل اصناف الحيوات والحركة والدينامية والنمو والضمور والولادة والزوال . ولأن الحيوية والآلية هما الصنفان الابرز في التداول المعرفي ويغطيان تقريبا الحركة في الاشياء والمواد والتعابير والمشاعر والابداع والحس والفكر وفي كل شكل ، فاننا نتبنى اقتراح اصطلاح ” الحيوالية ” ليكرس كل هذه الدلالات (14)

ان الاشياء تختلف فيما بينها برغم انها أشكال ، وهذا قول يعادله القول : ان الاشكال تختلف فيما بينها .والاختلاف يمكن حصره في ثلاثة نواحي : طرق التشكل ، والتحويات ، والابعاد الزمانية والمكانية . ويهمنا في هذا البند ان نتحدث قليلا عن طرق التشكل .*فالتحويات أياً كانت انواعها او طبيعتها او اسماؤها او ترميزاتها ، هي أطراف علاقة. ، وكلاهما ، اعني “التحويات” و”العلاقة” هما موضوعان للتشكل . تتنوع العلاقات في الاشياء كما تتنوع وحداتها على سبيل الاختلاف ، كما تتنوع الظروف والابعاد التي تغطي عملية التشيّئ ، في حال وجودهما الحقيقي وليس الافتراضي .. ان العلاقة تعمل عملها وفقا لقاعدة ، وكلا من العلاقة والقاعدة يُعرفان ويُدركان من مثولهما ، أي من حيث انهما شكلان. وقد تستوعب العلاقة منطقها الخاص فتستغني عن القاعدة ، ولا ينعكس .

ولربما تعبير ” العلاقة ” غير كافٍ في طاقته التعبيرية أو الدلالية في هذا التعريف ، فتعبير ” العملية ” أشمل منه ، ذلك أن العلاقة لابد ان تكون في الاقل بين طرفين او حوائين ، وليس لها أثر في العمليات الأحادية كالنفي مثلا ، فهو ليس بعلاقة ، ولايتطلب وجود طرفين ، فالنفي عملية وليس علاقة . والعلاقة هي ايضا عملية لكنها على الدوام هي ” عملية ثنائية ” في الاقل . ولهذا المفهوم خطورته وينبغي ان لانمرره دون التوقف عنده قليلا . فلنتذكر دوما الفرق بين ” العملية ” و” العلاقة ” ، وان ليس ثمة علاقة دون ان تكون ثنائية . لهذا فبدلا من تعبير العلاقة سنستخدم تعبير العملية الثنائية .

العملية الثنائية والقاعدة يتحواهما قانون التشكيل الداخلي للشكل / الشئ. و يمكن ان نطلق على العملية الثنائية بـ ” العملية الداخلية ” فهي تختصر التعبيرين السابقين وتدل عليهما بذات الوقت . واهم خصائص العملية الداخلية : الإغلاق ، بمعنى انها تنتج (= تُشكـّل) التحويات المنسجمة ذاتها داخل الشكل ، وانسجامها يعني ان لها خاصة مميزة مشتركة ، إلا انها بذات الوقت تتسع للفرق بين حوية وأخرى او بين حواء وآخر، إذ لا يتواجد حواءان ليس ثمة فرق بينهما . وبفضل هذين العاملين : الانسجام والفرق ؛ تتواجد التحويات في الشكل ، وهما ما يبرر وجودهما . ولكل علم من العلوم صياغاته المعبرة عن هذه العملية ، الا انها تتسم جميعها بهذه الخاصة . والامر لايتعلق فقط بالعلوم ، بل بكل المعارف والخبرات . ومن ابسط الامثلة على العلاقة الثنائية هي توليد المِثل في الجنس الحيواني ، وأيضا في الجنس النباتي حيث تتكاثر النباتات تكاثرا جنسيا او لاجنسيا منتجة النوع ذاته ، وعملية جمع الاعداد الطبيعية التي تنتج اعدادا طبيعية ، وتقابل الالوان في لوحة تشكيلية لها دلالات متلازمة مع ذلك التقابل ، وتحليل مضمون النصوص الادبية الذي لايخرج عن تحويات التحليل وهي وحداته ذاتها ، وغيرها . ولكن هذا لايعني كل الاشياء تستمد صيرورتها من العملية الثنائية حسب ، بل ربما ثمة عملية احادية أوثلاثية أو اكثروهذا ما يكشف عنه التحليل العلمي ، وليس عن طريق آخر. يتدخل مفهوم القاعدة مع المنطق ، الا انه في مرحلة متقدمة من التحليل يضحى التفريق بينهما أمرا ضروريا .

العملية الثنائية هنا ليس لها علاقة بمبدأ الثنائية ، انهما مفهومان مختلفان ومتمايزان، حيث ان العملية الثنائية تتواجد في كل الكائنات والتعابير ، وفي كل المحسوسات والمعقولات . وهي احدى قواعد تشكل الكائنات ، ففي طرق التشكل التي يمكن مشاهدة نتائجها نلحظ ان مزج الالوان هي طريقة تشكل ، يتشكل منها اللون الابيض ، وبنحو معاكس ان الضوء غير الملون يتحلل الى اطياف لونية متدرجة عبر الموشور . وفي كلا التجربتين تتواجد العملية الثنائية . فعلى مستوى المشاهدة لايتيح لنا ضآلة الزمن كي نرى كيف تعمل العملية الثنائية بشكل تدرجي مثل ناتج مزج لونين فقط ، ثم ناتج المزج الاول مع لون آخر وهكذا ، او النتائج المتدرجة والمتسلسلة لتحليل الضوء الى اطياف لونية . وهنا علينا ان ننظر في افتراض وجود تحولات زمنية وأخرى لازمنية . ومن الامثلة الملائمة في التحولات اللازمنية هي عمليات الجمع الاعتيادي ؛ فناتج جمع عددين يساوي ” فورا ” عدد ثالث ، فليس للزمن هنا وجود . وعلى خلاف ذلك التفاعلات الكيمايئية التي تتطلب زمنا بقدر ما . التحول اللازمني بهذا المعنى هو لحظة لايمكن تسجيلها ، وهي بمثابة البرزخ الذي يعني انعدام الزمن الخاص بالكائن ولايعني نفيا مطلقا لظاهرةالزمن ، حيث ان الصيرورة دال قوي على الحياة والكينونة والحركة ، ولا صيرورة دون زمن .

ان نظرية الشكل الحيوي تقول بأن الزمن بُعد للاشياء ، الا ان ديكارت يقرر ان المادة تتحيز بينما العقل لايتحيز. وهذا يضيف صعوبة فلسفية أخرى امام نظرية الشكل الحيوي موضوعها البعد المكاني . أليس العدد شكل ، اليس العقل شكل فأين هي ابعاد الزمان والمكان لكليهما ؟

رد واحد

  1. يتعرض هذا البحث الى طلب متكرر من قبل القراء
    واليوم كان مطلوبا اكثر من غيره
    وللمصادفة الجميلة فإنه يعود الى عام خلا من الآن الامر الذي استدعى بعض المشاعر الجميلة والمحزنة بأن عن زمان ليس ببعيد كان فيه الصديق زيارة حيويا بدرجة عالية ومن ثم انقلب على حيويته هدما وتشويها بدون مبرر مفهوم وان كان عير مسغرب من الطبيعة البشرية لأي منا في لحظة ما

    من يعيد قراءة المقال يجد الصديق زيارة في نصه اعلاه يقدم مقاربة مذهلة من حيث فهمها للشكل الحيوي – رغم بعض الهنات -ولذلك استحق عن جدارة تعبير مفكر عن ذلك المقال الذي يمثل لحظة فكريائة متألقة
    والسؤال المحير هو مالذي جرى له حتى نكص عن هذا المستوى؟
    أنه فعلا امر محير ويستحق البحث
    وبانتظار معرفة ماخفي نقول اعاد الله صديقنا الى مثاله في هذا المقال والذي لايخلو من هنات .. على الاقل من قبيل توثيق الاقتباسات ..؟ ولكنه مرة اخرى رفيع المستوى وجمبل جدا
    ونرجو بمناسبة افراح الربيع
    أن يعود الى مذاكرة وتذكر واعادة اكتشاف وتفعيل حيويته على افضل وجه

    إعجاب

أضف تعليق